[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]فى ظل ما يشهده العالم، العربى والغربى، منذ هبوب رياح التغيير، لم يلتفت الكثير إلى رحيل المفكر الفرنسى المسلم روجيه جارودى، (ولد فى 17 يوليو 1913 م فى مرسيليا – ورحل فى 13 يونيو 2012)، بالرغم من أنه قلما برز مفكر وفليسوف غربى مثلما برز "جاردوى"، وانحاز للقضايا العربية، وفضح بمنهجية علمية وعقلانية ادعاءات الحركة الصهيونية، وفكك مشروعها الاستعمارى فى المنطقة العربية القائم على أساطير وأوهام لا سند لها فى التاريخ والتراث الدينى الإنسانى.
ومثلما حدث مع "جاردوى" فى حياته حينما صدر قرار المحكمة الجائر بتغريمه بتهمة معايدة السامية، فتخلى عنه الجميع وأدار حكام العرب ظهورهم له، وكأن الأمر لا يعنيهم، حدث الأمر مثله مع رحيله، فلم يهتم إلا عدد قليل جدًا، يكاد لا تخطى أصابع اليد الواحدة، فإذا ما ذهب لتبحث عما كتب عنه فى رحيله على المواقع الإلكترونية، فلن تجد إلا عددًا قليلاً من المقالات التى تتحدث عن حياته، ونضاله، ومشروعه الفكرى.
وفى مقال للدكتور فصيل الرفوع، بعنوان "جارودى...والرحيل الهادئ"، يشير إلى أنه حينما أعلن رائد الفضاء الأمريكى «نيل أرم سترونج» إسلامه، وتحديداً من القاهرة، «قامت الدنيا ولم تقعد» واتهم فى عقله وسلوكه وبدنه، فى حين كان قبل إسلامه يمثل ذلك الإنسان العظيم الذى شكلت رياديته نقلة نوعية فى علم الفضاء واكتشافه، فهو أول إنسان تطأ قدماه أرض القمر عام 1968. وهو عين ما حصل للفيلسوف الفرنسى « روجيه جارودى» الذى رأت عيناه هذه الدنيا فى 1913 بمدينة مرسيليا الفرنسية، ورحل بصمت يوم الأربعاء 13 يونيو 2012، فبعد إسلامه اتهم بعشرات التهم الشخصية والسلوكية، ودفع ثمن مواقفه الفكرية والحضارية والإنسانية، وزج به فى السجون، حيناً فعلاً وحيناً آخر مع وقف التنفيذ. ودفع الأموال الطائلة ثمناً لمواقفه الرافضة لمجرد فكرة الاتهامية دون دليل، أو مصادرة الرأى وحريته. وبقى هكذا إلى أن رحل بهدوء مودعاً التراب الفرنسى الذى به يعتز، وعليه قارع النازيين المحتلين لأرضه، وذاق مرارة السجون فى عهد حكومة فيشى، وتنقل بين معتقلاتها المنتشرة من باريس إلى معسكر الجلفة جنوبى الجزائر، التى كانت ما تزال تأن تحت وطأة الاستعمار الفرنسى.
ويوضح «الرفوع» أن «جارودى» لم يكن بذاك الذى يكيل بمكيالين، فى فكره وسلوكه. بل كان مناهضاً للاستعمار الفرنسى للجزائر بنفس القدر الذى انخرط فيه فى مقاومة النازيين إبان احتلالهم لفرنسا، كما كان على الضد من ديكتاتورية الفكر الصهيونى وعرقيته بنفس القدر الذى كان فيه مقاوماً لديكتاتورية البروليتاريا حينما كان عضواً الحزب الشيوعى الفرنسى الذى انشق عنه فى عام 1968 وتركه بعد ذلك بعامين. كما أنه كان منتقداً للسلوك السوفييتى بالرغم من إيمانه بالاشتراكية المبنية على الإبداع الفردى والسلوك الإنسانى البعيد عن الاستغلال والاحتكار وإلغاء الآخر.
ويقول «الرفوع » عنه: «...عاش حتى تلك اللحظة يبحث عن معنى معين للحياة فلم يجده إلا فى الإسلام، وإنه وجد أن الحضارة الغربية قد بنيت على فهم خاطئ للإنسان..» نعم فهم خاطىء للإنسان مبنى على الظلم والاضطهاد والتجبر والاستغلال وفرض الإرادة على الآخر، وما الحقبة الاستعمارية الماضية والمستمرة حتى اليوم إلا دليل على الفكر «الجارودى» النير والمستنير.
وفى مقال للكاتب فارس الحباشنة، أن الشرق لم يكن مغناطيسًا سياسيًا للأفكار النضالية الأممية التى يعتقد بها "جارودى"، فانحاز للإسلام العقلانى والعلمى، انحاز لنظرية العقل والاجتهاد فى التراث الإسلامى، وكان فيلسوفًا مبشرًا لإحياء مدرسة ابن رشد وإخوان الصفا فى الفلسفة الإسلامية، وأعاد إنتاج مقاربات حضارية وإنسانية للعلاقة بين الشرق والغرب مدعومة بالحوار العقلانى بعيدًا عن مغالاة الأفكار الاستعمارية والاستشراقية التى طغت على العلاقة بين الحضارتين لأكثر من قرنين.
ويقول الكاتب عبد المحسن يوسف جمال، فى مقال له بعنوان "روجيه جارودى وحرية الرأى الغربية" كان حلم "جارودى" أن يوحد بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، لأنه يعتبر أن هناك رسالة مشتركة بينها، الذى ناضل كثيرًا، وعلى الرغم من الهجوم الشرس عليه، فإنه تمسك بمبدئه وأصالته وأصر على أبحاثه، وأثبت أن الغرب وفرنسا بالذات لا تحترم الرأى الآخر، خصوصا إذا كان هذا الرأى ضد الصهاينة.
وقال الكاتب غسان بو دياب، أن لـ"جارودى" مواقف عديدة شجاعة وجريئة، ويذكرها التاريخ له، فهو القائل: «إنى وجدت الحضارة الغربية بنيت على فهم خاطئ للإنسان وكان يبحث عن معنى معين لم يجده إلا فى الإسلام». وهذه الشهادة تكتسب معنى خاصاً، فالمتكلم يعرف الإسلام جيداً، وهو الذى أسر بالجزائر خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان اللقاء الأول له، هو الشاب البروتستانى مع الحضارة العربية والإسلامية خلال تجنيده فى جيش بلاده فوقع فى الأسر خلال المعارك الدائرة فى شمال أفريقيا، ليقضى فترة مسجوناً فى سجن الجلفة بالجزائر.
ويشير إلى العالمان العربى والإسلامى تضامنا مع "جارودى" فى صراعه ضد "الصهيونية"، وقام وفد من الكتاب والفنانين فى مصر، يتقدمهم «نجيب محفوظ»، بالاستنكار الشديد لمحاكمته، بالإضافة إلى تحرك «البابا شنودة» وشيخ الأزهر اللذين، معاً، وقعاً عريضة تدين وتستنكر المحاكمة.
وفى مقال كبير جدًا بعنوان "روجيه غارودى..آخر المفكرين الفرنسيين المتمردين"، ينتقد الكاتب شاكر نورى، تجاهل العديد من الصحف الفرنسية بخاصة، والأجنبية بعامة تجاهل نبأ "غارودى" بناءً على مواقفه المعروفة، بالرغم من ذهاب العديد من هذه الصحف إلى معارضته وإدانته حينما صدر كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، مشيرًا إلى أن "جارودى" قد سبق وتحدث عن هيمنة الإعلام الفرنسى، حينما قال «مع أن يهود فرنسا لا يمثلون سوى 2 فى المائة من السكان، فإنه على الرغم من هزالة هذه النسبة فإن الصهيونية تسيطر على جميع سياسات الإعلام الفرنسى بما فيها دور النشر والسينما خاصة بعد الغزو الثقافى الأميركى لفرنسا».
وكان من اللافت والمثير للدهشة أن بعض الكتاب استخدموا نبأ وفاة "جارودى" لصالح الدعاية للتيارات الدينية، حيث كتب الدكتور فايز أبو شمالة مقالاً بعنوان "روجيه جارودى ينتخب محمد مرسى"، حيث رأى أن "جارودى" لو أعطى الفرصة للإدلاء بصوته فى انتخابات الرئاسة المصرية، لانتخب المرشح الدكتور محمد مرسى، وذلك لأنه من أشد المدافعين عن الفضية الفلسطينية، ومن أكثر المنتقدين للممارسات الصهيونية الإرهابية ضد شعب أعزل، وبهذا ينسجم تماماً مع الدكتور محمد مرسى الذى ما زال يرى إسرائيل عدواً للأمة العربية والإسلامية.