ليس من الصعب أن نرى الطلاب أثناء خروجهم من المدارس وقد ارتسم شعور الفرح والإنبساط على وجوههم, يعبر عنه صوتهم العالي وجريهم وتدافعهم, وكأنهم كانوا في سجن وأُفرج عنهم, فهم يهربون خوفاً من إعادتهم مرة أخرى إليه.
وليس من الصعب أيضاً ملاحظة حال المدرسين الخارجين من المدرسة أيضاً: وجه مكفهر, ينبئ عن تعب وتكدير. وفم يتلفظ بكلمات غير مفهومة موجهة إلى الطلاب المندفعين وغالباً ما تكون عبارات شتيمة وسباب. ومشي سريع كأنه سعي لشيء يُخاف فواته, ولولا العيب لجرى المدرس مع طلابه خوفاً من إعادته للمدرسة هو الآخر.
وسؤالنا الآن : لماذا نكره المدرسة طلاباً ومدرسين؟ .
هذا السؤال توجهت به إلى طلابي الأعزاء, فكانت إجاباتهم تتركز حول نقاط متعددة, أهمها ما يلي :
1 ـ نكره المدرسة لأننا نكره الدروس, فهي ليست ممتعة وصعبة.
2 ـ نكره المدرسة لأننا نكره المدرسين, فهم دائماً يحتقروننا ويشتموننا ويضربوننا.
3 ـ نكره المدرسة لأنها تحرمنا من اللعب, ومشاهدة التلفزيون.
4 ـ نكره المدرسة لأن أهلنا يريدون منا الدراسة في كل الأوقات, ويريدون علامات عالية, إذا لم نحصل عليها عاقبونا.
5 ـ نكره المدرسة لأنها مملة, لا جديد فيها.
6 ـ نكره المدرسة لأننا نستيقظ باكراً بسببها, ونجبر على النوم باكراً بسببها أيضاً.
7 ـ نكره المدرسة بسبب الوظائف الكثيرة, فلا نكاد نخرج من المدرسة حتى نمضي معظم يومنا ونحن نكتب وظائف وواجبات.
8 ـ نكره المدرسة لأنها بلا فائدة!, فها هم حملة الشهادة يتسولون لقمة عيشهم.
أما المدرسون, فيكرهون المدرسة لأسباب متعددة أيضاً, ومن خلال الأحاديث التي تتم بيننا نحن معشر المدرسين أستطيع تلخيص أهم الأسباب بما يلي:
1 ـ نكره المدرسة لأنها متعبة, تستنزف قوانا وأعصابنا.
2 ـ نكره المدرسة لأننا نكره الطلاب المشاغبين الكسالى الذين يستفزوننا.
3 ـ نكره المدرسة لأننا نشعر بأن جهودنا تذهب أدراج الرياح, فالطلاب لا يهتمون, والقائمين على الإدارة التربوية لا يقدرون تعبنا, ويطلبون منا ما هو فوق طاقتنا.
4 ـ نكره المدرسة لأن المدرس أصبح سخرية للطلاب, فقد احترامه, والسبب هو هذه القوانين التي تصدر, والتي جردت المدرس من أي احترام وتقدير.
5 ـ نكره المدرسة لأن مهنة التعليم لا تغني عن ذل السؤال.
6 ـ نكره المدرسة لأننا ننافق, نعلم الأطفال أشياء لا تفيدهم, والواقع شيء آخر.
7 ـ نكره المدرسة لأنها لا تساعدنا على تحقيق أحلامنا التربوية, فالمناهج قاصرة وتافهة, ونحن مقيدون بها وبقوانين نلمس مدى بعدها عن التطبيق من خلال ممارستنا لمهنة التدريس.
8 ـ نكره المدرسة لأننا لا نحب التدريس!.
تحليل ومناقشة:
إذا أردنا أن نحلل هذه الأسباب التي ذكرها الطلاب والمدرسون, والتي تجعل المدرسة كأنها عقوبة أو لعنة, أو بأحسن الأحوال شرّ لا بد منه سنجد مايلي:
ـ كلنا يعلم سوء العلاقة بين المدرسين والطلاب, وكثيراً ما نسمع أو نقرأ عن تندرات الطلاب على أساتذتهم, والنكات التي يؤلفونها عليهم. بل إن هذا الأمر منتشر لدرجة صار يستخدم في الإعلانات والفيديو كليب. ولكن ما هو السبب الذي جعل العلاقة بين الطالب والأستاذ سيئة إلى هذا الحد؟. هناك أسباب كثيرة لذلك, منها:
1 ـ عدم تأهيل المدرسين بشكل جيد, وعدم تدريبهم على التعامل الأمثل مع الطلاب. فالمدرسون عندنا, حتى ولو كانوا من حملة دبلوم التأهيل التربوي, لا يدرسون الطرق اللازمة للتعامل مع طلابهم, ولا يدرسون أيضاً ما يجعلهم أكثر فهماً لنفسية التلاميذ في مراحل سنيهم المختلفة, وهذا ينعكس على معاملتهم لطلابهم, فيتعالون عليهم ويحتقرونهم ويسخرون منهم, ولا يقدرون مدى الأذى الذي يلحقونه بطلابهم من جراء التعامل معهم بمثل هذه الطرق. وهذا يدفع الطالب إلى النفور من أستاذه وكرهه.
2 ـ المدرس يعمل في ظل ظروف صعبة جداً, فهناك عدد كبير من الطلاب في الصف الواحد, وكثير من هؤلاء الطلاب يميل إلى الحركة والشغب, والمدرس ملاحق بالمنهاج الطويل, والويل له إن تأخر في إعطائه, لذلك نراه يحاول بشتى الطرق ضبط الصف ليعرف كيف يعطي درسه ويكسب وقته, لذلك نراه يلجأ إلى الصراخ والشتائم وأحياناً الضرب مع معرفته التامة بأنه ممنوع وأنه سيحاسب على ذلك إن اشتكى عليه أحد الطلاب أو عائلاتهم, ولكنه يفعل ذلك لأنه يتعرض هو لضغوط كثيرة, فتفلت أعصابه ويلجأ إلى هذه الأساليب التي تنفّر الطلاب وتزرع في قلوبهم البغض للمدرسين.
3 ـ إن كثيراً من أهالي الطلاب يلعبون دوراً سلبياً, ينعكس على علاقة الطالب بأستاذه, فكثير من الأهل يتحدثون عن الأساتذة باستخفاف وقلة احترام, وكثير منهم أيضاً يحرضون أولادهم على أساتذتهم, ويرفضون أن تُوجّه إلى أولادهم أية ملاحظة من الأستاذ, فنرى الطالب المقصر, وقد ملّ الأستاذ من كتابة الملاحظات لأهله, دون أن يجد تجاوباً منهم, ولكنه بمجرد أن يمس الولد بسوء فإن قيامة الأهل تقوم وتثور ثائرتهم ويأتون للدفاع عن ولدهم ضد اعتداء المدرس الغاشم, وبالطبع فإن أسلوب التعامل هذا ينعكس على علاقة الطالب بأستاذه.
4 ـ القوانين التي تصدر عن وزارة التربية تهدف بالدرجة الأولى لتحسين العملية التربوية, هذا ما يفترض فيها, ولكننا نجد أن كثيراً من هذه القوانين لا تلتفت إلى تحسين ظروف التدريس, ولا تنتبه إلى ضرورة زيادة التقارب بين الطلاب والأساتذة, فعلاقة المدرس مع طلابه تنحصر بالتلقين, والتلقين فقط, وليس هناك نشاطات مشتركة يستطيع المدرس القيام بها مع طلابه, فالنشاطات المدرسية قليلة جداً, وهي مع ذلك فهي تتم بعيداً عن الأساتذة وتكون من اختصاص لجان إما من الطلاب الأكبر سناً, أو من اختصاص مدرس الرياضة ومسؤولي النشاط.
5 ـ وبالنسبة للقوانين أيضاً, فإن كثيراً من المدرسين يشعرون أنها موجهة ضدهم بالدرجة الأولى, فالمدرس يشعر أنه ملاحق, ومدان دائماً, ولا يجد التقدير الكافي لتعبه, فهو إن قصّر يُحاسب, أما إن أجاد فلا أحد يشجعه ولو بكلمة, بل إن المسؤولين التربويين يأتون لتقييم عمل المدرس فيكون همهم الأول هو تصيد الأخطاء التي يقع فيها المدرس, دون وجه حق غالباً.
6 ـ وبالنسبة للقوانين أيضاً, فإن المدرس يجد بين طلابه كثيراً من الكسالى والمقصرين, الذين يحيلون الدرس إلى ساحة معركة, وممنوع على المدرس إخراجهم خارج الصف, كما أنه ممنوع من معاقبتهم, وحتى من تهديدهم بإنقاص العلامات, مما يثير أعصابه, ويكفي أن تمر بجانب مدرسة من المدارس حتى تسمع صوت صراخ الأستاذ وقد وصل إلى عنان السماء. طبعاً إلزامية التعليم أمر ممتاز وجيد, ولكنه يحتاج إلى دراسة ومتابعة, فهؤلاء الطلاب المقصرون نجد أن كثيراً منهم قد لا يعرف كتابة اسمه, فيجلس في الدرس وهو لا يعرف شيئاً ولا يفهم شيئاً, فيلجأ للشغب والحركة من أجل تمضية الوقت, فنحن في مدارسنا لا نراعي التفاوت بين مستويات الطلاب, وأعتقد أننا كما اهتممنا بفتح مدارس للمتفوقين لا بد لنا من العناية بالمقصرين, فالهدف الأول من إلزامية التعليم هو القضاء على الأمية, وليس حبس الطفل في المدرسة حتى سن الثامنة عشرة ثم تخريجه منها دون أن يعرف كتابة اسمه أو القراءة بصورة صحيحة.
ـ كثير من الطلاب يكرهون المدرسة بسبب الضغوط التي يتعرضون لها, فبالإضافة إلى سوء العلاقة مع المدرسين الذي مر الحديث عنه, نجد ضغطاً من الأهل والأساتذة من أجل الحصول على العلامات العالية والتفوق, والحجة تأمين المستقبل. وكما نعرف فإن الشهادة الثانوية وارتفاع المعدلات جعلت من الجامعة حلماً للكثيرين, لذلك نجد أن الأهل يضغطون ضغطاً كبيراً على أولادهم, من أجل الحصول على أعلى العلامات, وكثير منهم لا يهتمون بمدى فهم الطالب لما يدرسه, ولا بطريقة حصوله على العلامات حتى لو استخدم أساليب الغش المتنوعة.
هناك خلل كبير في فهمنا لضرورة التعلم, فالكثيرون من الناس يعتبرون أن الشهادة هي الغاية, هذه الشهادة التي ستؤمّن العمل, والمركز الإجتماعي, وليس المهم أي شيء آخر. والقليل جداً من الناس, يرون في العلم الغاية المرجوة, ويسعون لكي يكون أبناؤهم متعلمين حقاً, ومثقفين حقاً, يعرفون كيف يستفيدون من علمهم, حتى لو لم يحصلوا على معدل عالٍ يدخلون بواسطته إلى فروع الجامعة الحلم.
كل هذا يجعل الطالب يكره المدرسة, وخصوصاً إذا كان لا يملك الإمكانات اللازمة للتفوق, فالأهل والمدرسون لا يقدّرون قدرات الطلاب, ولا يسلّمون بأن هناك اختلافات بينهم في درجة الفهم والإستيعاب, وقابلية الإستجابة, وسرعة الحفظ, وحتى الرغبة في التعلم.
ـ من الأمور التي تجعل الطلاب يكرهون المدرسة, هي كون المدارس عندنا تفتقر إلى الجاذبية, بدءً من شكل البناء المدرسي والذي يشبه المعتقلات, وصولاً إلى افتقار المدارس لما يمكن أن يجذب هؤلاء الطلاب:
1 ـ فالدروس تعتمد على الجانب النظري البحت, وقليلاً ما تكون عملية, أو تتيح للطالب إبراز شخصيته ومواهبه, بالإضافة إلى فقر مدارسنا بوسائل النشاط المختلفة, فالرياضة المدرسية تعاني من قصور كبير, ودروس الرسم والموسيقى عبارة عن تمضية للوقت ليس إلا, والمكتبة المدرسية تحتوي على مجموعة قليلة من الكتب التي لا تغري الطالب بالقراءة, أما المخابر العلمية فوضعها لا يسر غالباً.
2 ـ طبعاً فإن تكاليف التعليم كبيرة جداً, والميزانية المخصصة للإنفاق على التعليم قليلة, لأسباب كثيرة لسنا في معرض الحديث عنها, ولكن هذا ليس هو السبب الرئيس في كون مدارسنا تفتقر إلى النشاطات وبالتالي تفتقر إلى الجاذبية, مدارسنا تفتقر إلى روح التعاون, وروح المسؤولية, ونحن إلى الآن لا نشعر بأهمية التربية والتعليم, صحيح أن هناك عبارات كثيرة تُردد دائماً عن أن الأطفال هم أمل المستقبل, وأن المعلم هو صانع الأجيال.....إلخ, ولكننا حتى الآن لا نشعر بأهمية التربية والتعليم, ولا نسعى فعلاً لتنشئة جيل يعرف واجباته وحقوقه, ويعرف مسؤوليته في بناء مجتمعه, وهذا القصور في فهم أهمية التعليم وغايته وأهدافه يجعلنا بعيدين عن جعل المدرسة متعة, يجب أن يشعر الطالب بمتعة الإكتشاف, ومتعة المغامرة, ومتعة التميز, ومتعة الطفولة, وكل ذلك لن يتحقق طالما بقيت مدارسنا أماكن حبس للطلاب, يُحشرون فيها في صفوف مكتظة, ويقوم مدرس, وبطريقة عنيفة في أغلب الأحيان ـ بعملية حشو أدمغتهم بمعلومات لا يعرفون فائدتها لمستقبلهم, ولا يشعرون بمدى ارتباطها مع واقعهم.
3 ـ المناهج التي تعطى للطلاب تعاني من مشاكل خطيرة, فليس هناك ارتباط بينها, يساعد على بناء شخصية متوازنة فاعلة للطالب. وليس هناك دراسة جدية لمعرفة ما نحتاج تعليمه لطلابنا, هناك حشو كثير, وتكرار, وأحيانا سطحية ومثالية كبيرة, بحيث يشعر الطلاب والمدرسون على حد سواء بعدم منطقية ما يعطى للطلاب من معلومات وخصوصاً في المواد الأدبية. أما في المواد العلمية فهي بعيدة عن التطور, بعيدة عن التطبيق, بعيدة عن الممارسة, لا يعرف الطالب فائدة دراسته لها. مع أن من المفترض أن تكون هذه المناهج بوابة للمستقبل.
بالإضافة إلى أن هذه المناهج لا تساعد أبدأ على اكتشاف مواهب الطلاب, فالمطلوب من الطالب بعد كل درس كتابة وظيفة, يقوم معظم الطلاب بكتابتها بطريقة سيئة أو يقومون بنسخها من بعضهم أو من دفاتر من سبقهم من الطلاب, ومن ثم يُطلب منه حفظ الدرس من أجل ترديده كالببغاء.
وحتى لو حاول المدرس بجهده الفردي أن يعطي للطالب نشاطاً خارجياً, وتطبيقاً للمناهج يجد عقبات كثيرة تقف في طريقه, بالإضافة إلى أنه مطالب بإنهاء المناهج في وقته المحدد, وهذا المناهج طويل, مع كون عدد الحصص وتوزيعها ومدتها لا تترك للمدرس فرصة للقيام بمثل هذه النشاطات. لا أعرف الحكمة من إعطاء الطلاب دروساً كثيرة لا يعرفون لماذا يتعلمونها, ولا أعرف الحكمة من حشو أدمغتهم بمعلومات لا يستطيعون تطبيقها على أرض الواقع, ولا أعرف المغزى من تكثير الدروس بهذا الصورة المتضخمة, والتي لا تترك للطالب وقتاً لممارسة هواية يحبها, أو تنمية مهارة يريدها.
وبعد:
ليس المقصود من مقالي هذا إلصاق مسؤولية ما يعانيه تعليمنا من مشاكل على المدرسين أو الأهل أو الطلاب, ولا حتى على القائمين على العملية التربوية, القصد هو ضرب ناقوس الخطر, وتنبيه الجميع إلى خطورة الوضع التعليمي, وخطورة نتائج القصور الذي يعاني منه على مستقبلنا وحياتنا ونهضتنا.
إن قلبي يتقطع أسىً كلما دخلت إلى المدرسة, أرى طلابي وهم يعانون, أرى زملائي وهم يعانون, وأشعر بالعجز الكبير, فكل واحد منا يرمي بمسؤوليته على غيره, نفتقر إلى التعاون, ولا نملك الجرأة على مواجهة أخطائنا, ولا نشعر بخطورة تقصيرنا بحق أولادنا وأنفسنا وبلادنا, نطالب بالحقوق ونشتكي ونتحمل التعب والإرهاق, ولا نحاول مجرد محاولة ولو بسيطة للخروج مما نحن فيه, أو لتغيير هذا الوضع المأساوي في مدارسنا.
إن تعاوننا جميعاً هو السبيل الوحيد لتحسين العملية التربوية, ليس المهم كثرة الأموال التي تنفق على التعليم, ولكن المهم هو الرغبة في العمل الفاعل المنتج, وفهم وظيفة التعليم, هذه الوظيفة التي يجب أن تسعى لخلق الإنسان الفاعل, الإنسان المهتم بمجتمعه وأمته, الساعي لرفعتها ونهضتها والعامل لخدمتها, المؤدي لواجباته دون ملاحقة أو تهديد, الذي يؤمن أنه راع وأنه مسؤول عن رعيته. فمتى نبدأ؟