رحل، أمس الجمعة، فنان الكاريكاتير أحمد إبراهيم حجازي، مواليد مدينة الإسكندرية عام 1936، لأب ريفي يعمل سائقا في هيئة السكك الحديد، وله 11 شقيقا، عاش بداياته الأولى في مدينة طنطا، ويقول حول نشأته: "في فترة الصيف كان أبى يصحبني معه في القطار إلى محافظات شتى، فرأيت مصر كلها عبر نافذة القطار، وعندما التحقت بالمدرسة، كنت أشعر عندما يدعوني بعض زملائي الأغنياء إلى بيوتهم، وأرى الفخامة، بأن هناك شيئا غير مضبوط في الدنيا، ولم أكن أفهم أبدا وقتها لماذا نحن فقراء جدا إلى هذا الحد".
تلقى حجازي تعليمه الثانوي في مدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا، وكان وقتها يرسم رسوما تعبيرية، ولم يكن في دائرة اهتماماته الرسوم الكاريكاتيرية – كما قال في أحد حواراته، لكنه وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي قرر أن يسافر إلى القاهرة للالتحاق بكلية الفنون الجميلة.
كانت القاهرة فى ذلك الوقت - بدايات العام 1954- تمر بتغييرات شتى إثر قيام ثورة يوليو، وكان حجازي قد شد رحاله إليها حاملا أحلامه الصغيرة، ليبدأ رحلته مع الرسم، وليتنقل بين عدد من المجلات حتى رشحه أحمد بهاء الدين للعمل معه فى مؤسسة «روزاليوسف»، وفيها التقى بعدد من كبار الرسامين مثل «صلاح جاهين وجورج ورجائي» لتبدأ رحلة حجازي مع الصحافة المصرية التي صار بعد فترة قصيرة واحدا من أبرز رساميها، بعد سلسلة أعماله في مجلة الأطفال «سمير» عبر مسلسل الرسوم «تنابلة السلطان» والذي تميزت شخصياته بروح كاريكاتيرية فكاهية عالية، لأطفال ضاحكين دائما.
كان حجازي ومنذ التحاقه بالعمل رساما للكاريكاتير فى «روزاليوسف» عام 1956، لم يتوقف عن الاشتباك مع الكثير من القضايا الحياتية للإنسان العربي، بسخرية لاذعة لا تخلو من عمق فلسفي كبير، وتواضع إذ ظل حجازي صامتا في تواضع يليق بالعظماء حتى أنه كان دائما ما يرد في أدب جم لمن يناديه أو يكتب عنه مستهلا ذلك بلقب (الكبير) أنه عمل بالكاريكاتير مصادفة، وأنه لم يكن يتوقع أن (تلقى رسوماته على الورق، كل هذا الإعجاب غير المبرر) مشيرا بابتسامة رقيقة على شفتيه.
حجازي مولعا بالقراءة
كان حجازي منذ طفولته مولعا بالقراءة، فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه، ويقول عن تلك الفترة إنه قرأ كتبا لم يكن يدرك معناها في شتى ألوان المعرفة، لكنه لم يكن يعرف معنى ما يقرأ، غير أن حروف المطبعة تركت بداخله شيئا مختلفا ومؤثرا، اكتشف بعضه عندما عاود قراءة هذه الكتب مرة أخرى بعد هجرته إلى القاهرة، وخصوصا أشعار بيرم التونسي الذي يقول عنه "وجدت في أشعاره صورا هزتني، لأنني شعرت بأن هناك من يفهم ظروف حينا الفقير ويعبر عنها، ومن فرط حبي في أشعار بيرم كنت اقرأها كل يوم".
وتميزت رسوم حجازي طوال مشواره الفني بالانتقادات اللاذعة التي كان يوجهها إلى الواقع وعلى نحو مخالف للفكر التقليدي السائد في رسوم الكاريكاتير في ذلك الوقت، والذي كان يقوم على المبالغة الشديدة لإضحاك الناس، واعتمد في مدرسته الجديدة التى أسسها وسار على دربها آخرون على فكرة الواقع المعكوس، التي كانت تنطلق من رصد الواقع كما هو من دون تدخل، استنادا على ما ينطوي عليه هذا الواقع من مفارقات مضحكة للغاية، غير أنه تغير نهجه بعد نكسة 67 فخيم عليه الاكتئاب والإحباط.
وفي تلك الفترة استطاع حجازي أن يعبر برسومه عن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية نفسها التي مرت بها مصر والوطن العربي منحازا دائما إلى الطبقات الشعبية برؤية فلسفية متفردة، تميزت خلالها رسومه بشفافية فنان قادر على اقتناص الأفكار الجديدة الطازجة والمدهشة من مفارقات الواقع.
هذا وفي فترة تألقه ونضجه الفني، منذ حوالى خمس وعشرون عاما، اعتزل حجازي وانسحب في هدوء، وانقطع عن الرسم فلم يرسل رسومه إلى مجلة أو جريدة إلا بين الحين والآخر عبر صحيفة «العربي» الناصرية، أو مجلة الأطفال «علاء الدين»، مفاجئا عشاق خطوطه الساحرة ونكاته الموجعة، برسمة صغيرة هنا أو هناك، قبل أن يتخذ قراره الأخير بالعودة من جديد إلى مدينته طنطا (الذي توفى بها)، تاركا العاصمة بصخبها وجدلها العقيم، متوحدا بذكريات سني عمره الأولى، ودفء الملايين من محبيه.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]