يذكر بعض الباحثين أن فى مصر ظروفا مهيئة للاتجاه الصوفى ترجع إلى العصر الفرعونى وما ارتبـط به من
طقوس دينية تدل عليها النقوش الموجودة على جدران معابدهم ، مما يؤكد ارتباطهم بالحياة الآخرة ، فساروا فى هدى تعاليمه راضين .
وهذا اجتهاد أو تصور لا يرقى لمستوى الحقيقة التاريخية ؛
إذ لو كان الأمر كذلك لرأينا بوادر التصوف فى مصر فى القرن الأول ، أو الثاني ، الأمر الذى لم يكن له أى وجود بصورة من الصور .
وإذا تحدثنا عن بدايات التصوف فى مصر ، فلا بد أن نفرق بين ظهوره بصورة فردية ، وظهوره على شكل جماعى على هيئة فرق وطرق .
فعن الوجود الفردى للتصوف فى مصر
يرى بعض الباحثين أن أول من غرس بذور التصوف فى مصر هو ذو النون المصرى المتوفى سنة 245هـ ، وكان يعد أول من تكلم فى المقامات والأحوال ، وكانت له شخصية مؤثرة حتى أن جميع الشيوخ من
معاصريه أخذوا عنه ، واعتمدوا عليه ، وشاركه فى غرس بذور الفكر الصوفى فى القرن الثالث الهجرى صوفيان آخران هما أبوبكر الزقاق المصرى ، وأبو الحسن بن بنان الحمال المتوفى سنة 316هـ .
وعلى امتداد القرنين الرابع والخامس الهجريين أتى إلى مصر رجال متصوفون منهم أبوعلى الروزبارى المتوفى سنة 322 هـ ، وأبوعلى بن الكاتب المتوفى سنة نيف وأربعين وثلاثمائة من الهجرة ،
وأبو الحسـن الدينورى الصائغ المتوفى سنة 331هـ ، وأبوبكر الرملى النابلسى المتوفى سنة 363هـ ، وابن الترجمان المتوفى سنة 448 هـ ، وأبوالقاسم الصامت المتوفى سنة 427هـ .
ويبدو أن الوجود الفاطمى فى مصر ـ من منتصف القرن الرابع حتى منتصف القرن السادس ـ كان
عاملا مشجعا على توافد الصوفية إلى مصر ؛ لأن السياسة الفاطمية وأنتماءها الشيعى الباطنى الذى كان يستهدف إبعاد الناس عن مجال السياسة ..
بالإغراق فى الزهد ، واختلاق المناسبات الشاغلة ـ سواء أكانت دينية أم غير دينية ـ وإقامة الأضرحة على
قبور وهمية ـ وغير وهمية ـ لشخصيات لها مكانتها فى قلوب المصريين أوجد بيئة خصبة لوفود من المتصوفة تأتى من فارس ، والعراق ، والمغرب لتقيم لها ركائز فى مصر تجد حماية مبذولة من النظام
الفاطمى المسئول تاريخيا عن إشاعة البدع والمستحدثات ، كما أنه مسئول عن حالة العجز والتواكل فى مواجهة البغى الصليبى ، حتى تم الإنقاذ على يد الأيوبيين .
أمـا بداية التجمعات الصوفية أعنى الفرق والطرق فقد اختلفت فيها آراء الباحثين :
سجل المقريزى نشأة التصوف الجماعى فى مصر بأنه كان فى عام 569 هـ ، ويرى على باشا مبارك أنه كان زمن صلاح الدين الأيوبى سنة 659هـ ، ورأى المقريزى أدنى للصواب ؛ لأن صــلاح الدين الأيوبى توفى سنة 589هـ .
ويقول صاحب رسالة الطرق الصوفية فى مصر : فى القرن السـادس الهجرى ظهرت مدرسة صوفية كبيرة بصعيد مصر ، وهى المدرسة التى أسسها الشيخ عبد الرحيم القنائي المتوفى سنة 592 هـ ،
والذى كان على ما يذكر الحافظ المنذرى أحد الزهاد المشهورين ، والعباد المذكورين ، ثم قام عليها من بعــده صوفى مصرى له مكانته فى عصره هو الشيخ أبو الحسن الصباغ المتوفى سنة 613 هـ ، والذى أخذ عنه كثيرون جدا من صوفية الصعيد فى ذلك العصر .
وهذا الاختلاف فى نقطة البداية لا يعد شيئا لتقارب التواريخ ، فهـم أدنى إلى الاتفـاق منهـم إلى الاختلاف ، إذا استثنينا الوهم التاريخى لعلى باشا مبارك .
كما تتضح لنا الصورة الجماعية التى أخذت المسيرة الصوفية فى مصر تلتزمها ، وتسير عليها .
ومصر فى ذلك الوقت ـ ومابعده ـ كانت مهاجرًا للأعلام من الشرق والغرب ، إذ كانت الواحة الآمنة وسط
الاضطراب الذى ساد العالم الإسلامى بتأثير الهجمات الصليبية، ثم غزوات التتار فيما بعد والتى استهدفت
المشرق الإسلامى ، ثم الاضطهاد الباغى من نصـارى الأسبان ، الذى استهدف المغـرب الإسلامى ودمر حضارته الزاهرة .
[b] ويأتى القرن السابع