قال تعالى:﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاّ يَبْغِيَانِ﴾ الرحمن 19و20.
الدلالة العلمية:لفظ (البحر) يمكن أن يطلق علي البحر المالح أو النهر العذب, وإذا أطلق بغير تقييد اقتصر علي البحر المالح, ولفظ (مرج) يدل علي المجيء والذهاب والتردد والاختلاط والاضطراب, ولذلك قيل (مرجت) أمانة القوم أي اضطربت, و(مرج) الأمر اذا اختلط, ومنه (الهرج والمرج), وأمر(مريج) أي مختلط, و(المرج) مرعي الدواب حيث يكثر فيها النبات (فتمرج) الدواب فيه وتختلط, فأصل (المرج) هو الخلط, وقوله تعالي: (مرج البحرين) أي أفاض أحدهما بالآخر وجعلهما يختلطان دون امتزاج كما تختلط الدواب في المرعى؛ أي دون أن يغير أحدهما صفات الآخر, والبرزخ حاجز؛ فلا يبغي أحدهما على الآخر فيغير صفاته, إذن ليس ماء البحر المالح إلا كتل لكل منها خصائص مميزة كالحرارة والتركيب والكائنات البحرية.
التوافق مع العلوم الحديثة: بقياس كل من درجات الحرارة ونسبة الملوحة في كتل الماء التي تملأ البحار والمحيطات المختلفة, والتي تغطي حوالي71% من مساحة سطح الأرض المقدرة بخمسمائة وعشرة ملايين من الكيلومترات المربعة, اتضح تباينها تباينا ملحوظا من بحر إلي آخر, وحتى في البحر الواحد نجد التمايز قائم أفقيا ورأسيا, وكل كتلة مائية منها تمثل بيئة حيوية لها تجمعاتها الخاصة بها من الأحياء البحرية من بعض الأنواع, والتباين في كل من درجات الحرارة ونسبة تركيز الأملاح في ماء البحار والمحيطات يؤدي إلي تباين في كثافتها, مما يعين علي تحديد تلك الكتل المائية المتباينة علي الرغم من محاولة الأمواج والتيارات البحرية خلطهما مع بعضها البعض, وتتحرك كتل الماء السطحية بين مساحات كبيرة شمالا وجنوبا فتتغير صفاتها بتغير الظروف البيئية التي تنتقل إليها, وعندما تتغير كثافة الكتلة المائية السطحية فإنها تغوص في وسط ماء أقل كثافة حاملة معها بعض صفات ماء المنطقة السطحية التي كانت فيها إلي أعماق المحيط إن لم تحمل تلك الصفات كلها فتؤدي إلي تغيير كبير في صفات الماء بتلك الأعماق, كما تعين علي تحديد المصادر التي جاءت منها مهما تباعدت مسافات تلك المصادر إلي آلاف الكيلومترات, ومع اختلاط الماء من مصادر مختلفة تتغير صفات الكتل المائية باستمرار؛ في المحيط الواحد وفي البحر الواحد وبين البحار والمحيطات المختلفة. وينقسم الماء السطحي في المحيطات علي أساس من التباين في درجات الحرارة ونسبة الملوحة إلي كتل متباينة, وعلي سبيل المثال فإن الماء السطحي في الجزء الشمالي من المحيط الأطلسي يعتبر أكثر أجزاء المحيطات ملوحة, بينما يعتبر الماء السطحي في شمال المحيط الهادي أقلها ملوحة, وتتباين كذلك كتل الماء متوسط العمق في المحيطات, وأوضح نموذج لكتل الماء العميق في البحار والمحيطات يقع في الجزء الشمالي الغربي من المحيط الأطلسي, وأما الماء شديد العمق فقد عرف حديثا أن المحيط القطبي الجنوبي يحوي فوق قاعه كتلة من الماء تعتبر أعلى ماء الأرض كثافة, وهكذا تتنوع كتل ماء البحار جميعا في الصفات وتبقى كل كتلة منها محتفظة بصفاتها؛ تماما كما وصفها القرآن الكريم.
وترتبط جزيئات الماء مع بعضها بعضا بتجاذب الشحنات الكهربية, وتعرف هذه الخاصية باسم اللزوجة الجزيئية, وهي من أهم الصفات المؤثرة في ماء البحار والمحيطات التي تجعله يختلط ولا يمتزج امتزاجا كاملا أبدا. وشدة تماسك وتلاصق جزيئات الماء هي التي أعطته بتدبير من الله تعالى العديد من صفاته المميزة مثل شدة توتره السطحي, وميله إلي التكور على ذاته علي هيئة قطرات بدلا من الانتشار الأفقي علي السطح الذي يسكب عليه, وفي تكوين ذلك الحاجز غير المرئي بين كل ماءين مختلفين في صفاتهما من مثل الماء العذب والمالح, والماءين الملحين المتباينين, فيجعل كل بحرين متجاورين معزولين؛ رغم فعل التيارات البحرية والأمواج من الحركة ذهابا وإيابا ولكن بغير اختلاط, إنها حقيقة لم يصل إليها العلم إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ولم تدون في كتاب قبل منتصف الأربعينيات من القرن العشرين, فهل من تفسير لورودها صريحا في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا من الزمان خلت سوى الوحي!.