القبور الثلاثــــــــــــــــة
في ليلة قَارسة البرد ، طَرقت بَاب بيتي أمُّ مسكينة ، نَال الدهر منها بأرزائه ، و أجهدها بأسقامه و
أوجاعه ، ظهرها محدودب كأنما أثقلته الهموم ! ، وجهها تعلوه غمامة من الكآبة و الحزن ، كأنما
الزمان بأَّوجاعه صَار لمطلعها دثارًا ، و كأنما طوارق الحدثان نُحتت في ملامحها الشاحبة و أَسمالها
البَاليات ، نظرت إليَّ بنظرة منكسرة ، وقالت:
يا بني : أنا أسكن قريبًا من هذه الدار ، أَخْلدني هذا الزمان مَوارد الهَلَكة و الفقر ، ولا أَجد مُعينًا
يواسيني ، ولا سندًا يؤازرني ، وقد علمت أنك من أَهل الخير و الفضل ، تُجزل العطاء ، وتبذل المعروف
، فهل لك أن تلملم شعثًا أَضناه الدهر ففرقه ، و أن تُعين مكروبًا تجاذبه الهم فعذبه ؟! .
قلت : و ما هي شكواك ؟ .
قالت : لي ابنة صَغيرة تُعالج المرض ، وتَشكو الجوع ، و لا أظن إلا أنَّ الموت قد أرخى حباله لينتزع
روحها ، ويقضي بأمر الله فيها ، ولم أجد بدَّا من طلب المعونة ، فهل لك أن تمّد لي يد فضلك و ترخي
إليَّ بزمام بذلك ؟ .
قلت : لك ذلك إن شاء الله . وهَرعت إلى دَاري وبي من الهم ما الله به عليم ، فرقًا وحزنًا بالذي
أَصابها ، وبحثت عن شيء من الدواء لعلّي أُعلل به أوجاع طفلتها الصغيرة ، و قد كنت أدَّخره لملمّة
يخبأها الدهر ، أو لفاجعة يدنو بها سهم القضاء ، و أحضرت سراجًا أضيء به ظلمة الطريق ، وشيئًا
من الطعام والشراب أزودّها به .
وخَرجت أَتبع تلك المرأة و هي تئنَّ يَكاد الأسى يَخنق عبرتها ، ويُسبل دمعتها ، كأنّي بها قد أَحست
بما يحسًّه من أشقته صروف الحياة ، و أَنكت روحه ظروف السنين ، حتى حيل بينه وبين الخلاص ،
فلم يجد مستراحًا له و لا مَأمْنًا إلا أن يمد يده المُعدَمه سائلًا متضرعًا ، وهو أعفُّ الناس عن مال
سِواه ، وأَقنعهم عنه ، وأَزهدهم فيه .
كان الليلٌ حَالك الظلام ، والريح عَاصفة تَزعزع الأركان ، و وجهه البدر في السَماء ملّبد بالغمائم
السابحات في عباب الفضاء ، لا تَكاد تبدو صفحته الجميلة إلا وينازعه السحاب فيحجب نوره ، و
يُرخى عليه سَدوله ، كأّنه الأملٌ في نُفوس المُعدَمين يُومض حينًا ثم يفتر حينًا ،فليته يُشرق من
جديد ليبدد وحشة الظلام ! ، وليشفي نفوسًا مكلومة عَدمت من يطببها و يَأسو جراحاتها ، كنفس
هذه ( البائسة الحزينة ) .
كَنتٌ أَسير خَلفها في سَكون حتى انتهى بنا المطاف إلى كَوخ صغير ، في أرض مُقفرة قَاحلة ،
ليس حَولها زَرع و لا نَبات ، ولا عَمار و لا بناء ، كلُّ ما في الأمر أنَّ من نظر لأوَّل وهلة ظنَّ هذا الكوخ
مسكن هَجره أهله فصار مأوى تأمه الهوامُ و السباع ، رَوافده متهالكة ، وحراديًّه متساقطة ، دَخلت
إليه وأنا أتبعها فإذا سريرٌ في وسط الكوخ ، مُمددة عَليه فتاة صَغيرة كأنّها البدر الوضَّاء في عَتمة
السماء ، و كأنها الجوزاء المُشعَّة في آفاق الفضاء ، لو لا أنَّ ذبولًا اعتراها ، فمحى الحسن عن
رونقها ، وبدد بهائها ، ولا أظنه إلا آثرًا من آثار علّتها و مرضها .
فأطرقت برَأسي واجمًا ، أبكي منظرها بعبرات خافتة، و آسى على حَالها بنظرة حزينة صامته ، و
أندب صَورتها المُرعية .
رَحمتك يا الله ! ، جَسدٌ واه ، و جَفون قرّحها السَّقامُ ، يَكاد جُلد جسمها يُبين عن عظمها ، وتَكاد
حُمْرَة وجهها وحرارة أطرافها تَستحيل هَاجرة يغلي أوارها ، وتتأجج نيرانها .
واأسفاه ! ، كم على أَديمك أيتّها الأرض أَمثال هؤلاء المنكوبين ، تنزل بهم الأدواء و الأمراض ، و تَعتلج
صَدورهم سهام المنون ، و يقتلهم الجوع والظمأ ! ، و لا أَحدٌ يَعبأ بهم ، أو يُنظر إليهم ، أو يَشعر بما
يقاسون .
أَخذتٌ أَسقي هذه الصغيرة شَيئًا من الدوَاء ، وأَتبعه بشيء من الماء ، و أَمسح ما رَفَضَ جبينها من
العرق لشدَّة مرضها ، ثم سَألتها : كيف تَشعرين ؟!
قالت : أشعر أنَّ الله سوف ينفَّس عني و عن أمي هذا الشقاء ، و أَنّه سوف يَمنحنا الراحة الأَبدّية ،
و يُغدق عَلينا من خيراته وبركاته في دار خير لنا من هذه الدار ، ننعم فيها برضوان الله و فضله ، و
بكرمه ومنّه ، لقد ضنَّ علينا الناس بدنياهم ، وأرجو أن يُكرمنا الله في جنّة الخَلود ، ثم ابتسمت في
وَجه أمها وقبضت بأطراف أَصابعها على يدها ، و قالت :
لا بَأس عليك يا أماه ، فلقد رَأيتٌ هذه الليلة أبي في المنام يلبس حلَّة خَضراء من سُندس ، و
يُسلَّم عليَّ و يقول لي : إنَّ لقائنا قَريب ، و إنَّي قد اشتقت إلى لقاءه ، و رَجوت أن يريحَك الله من
عناءك علي ، وشقاءك في سبيل علاجي ، فأنت أضنَّ الناس بكرامتك من أن تسألين أحدًا غير الله ،
أو تستعين بأحد سواه .
وهنا سَقطت دمعة حرَّى من أمَّها العجوز ، و أَخذت تدعوا لصَغيرتها أن يَرد الله عليها عَافيتها ، و أن
يَشفيها من مرضها .
ومَكثت ليلتي أسقي هذه الصغيرة ، و أَقوم على شأنها ، و أنا أَلمح في وجهها علائم الفراق ، و أرى
اشتداد المرض عليها ، فَأيقنت أن الموت نازل بساحتها - إلا أن يشاء الله - .
ثم نَظرت فإذا بأُمّها قد انحت نَاحية و اتجهت صَوب القبلة ضَارعة إلى رَبها ، مُبتهلة إليه ، و لصدرها
أزيز كأزيز المرجل من شدّة البكاء و الوَجد .
فمكثتُ أَرمُقها ببصري و آسف على حَالها حتى هَدأت ، ثم قَالت لي : إنَّ الليل في هزيعه الأخير ،
و إنّي لا أرى لك إلا أَن تَعود إلى دَارك .
قلت : و الله لا يلَّذ لي منام ، و لا يُسكن لي طرف ، و هذه الصغيرة على هذه الحال ، فلعلي أدعو
لها راق فيرقيها ، أو طبيب فيجس حالتها ، فتهللت ابتسامتها في وجهي ، وشكرتني ، و قالت :
أَحسن الله إليك كما أًحسنت إِلينا ، و جَزاك بما بذلته لنا عظيم جزيل الأجر و الثواب
، فما كِدت انصرف عن الكوخ حتى سَمعت الصغيرة تَنزع ، ثم شهقت شهقة دوَّى لها المكان ،
فعلمت أنَّ فيها وفاتها ، وعدت إليها فإذا هي قد فارقت الحياة ، و أمها منكبَّة عليها تقبلها وتبكي ، و
تقول :
يا بنيّتي الصَغيرة ، ما أَشقى أَمك من بعدك ! ، و ما أقل حَظها فيك ! ، ونصيبها منك ، ها أنت تموتين
من الجوع والمرض كما مات والدك بالأمس القريب، فلو لا أنَّ الموت قدر قدّره الله عليك ، لمزّقت
ردائي ، و لطَمت خدي ، و نتفت شعري ، جزعًا عليك ، وشَفقة بك ، و و الله لا أَجد إلا أن أحتسبك
وديعة ردُّت إلى مالكها ، وعادت إلى صانعها وخالقها ، فها أنا ذا ثاكلة لك ، فما أعظم ثكلي ! و ما
أشد وَجدي عليك ! ، ثم انكبت تَبكيها وتلثمها وتقبلها...
و أَنا واقف إلى جِوارها أَصبّرها وأسلّيها و أذكّرها بمثوبة الله للصابرين ، ولا و الله ما حزنت في ساعة
من أيام حياتي حزني تلك الساعة ، ولا جزعت جزعي فيها ، و ما كان يوم أشقى علي من يوم
أتذكر فيه هذه اللحظات .
دُفنت هذه الطفلة الصغيرة في ظُهر ذلك اليوم ، بجوار قَبر والدها ، و حَضر جنازتها عدد مهيب من
الناس من القرى المجاورة بعد أن سمعوا قصة الطفلة الصغيرة التي ماتت فقرًا.
و أما أمُّها فقد مرضت بعد موت ابنتها ، و ظَللت بعد ذلك أَختلفٌ إلى كُوخها ، للقيام على أمرها ،
وكان أكثر وقتها مُناجاة و ابتهال إلى الله ، حتى لقيت ربها بعد ثلاثة أَيام من موت طفلتها ، وما أظنها
ماتت إلا من حزنها وبكائها ، فكان قبرها الثالث بجوار قَبري ابنتها وزوجها .
* * *
رَحمة الله عَليكم مَعاشر الفقراء !
ما أكثر من مات منكم جوعًا و مرضًا ، و لم يمنعه من مدّ يده للناس إلا ورَضاه بكفاف العيش ،
وقناعته بقليل من الدنيا ، يبيت الواحد منكم ليلته جائعًا و باب منزله أمام أبواب منازلنا! ، ولا أحد
منا يشعر بما تعانون ، أو يتفقد أحوالكم ويبكي حياتكم البائسة .
رَحمة الله عَليكم مَعاشر الفقراء !
لقد ثُقل على الأرض أن تَحملكم و تَحمل مآسيكم، فلم تَجد أن تَضمّكم بين أَحضانها ، فالآن
تساويتم في منازلكم مع الأغنياء ، و مَكثتم في لحُودكم مطمئنين ، فلا تَفاضل بينكم ولا تمايز ، و
لن ينفع أيُّ إنسان إلا ما قدمه من عمل : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ) .
عـــــــذرا للاطـالــــة ولكن جمــــال القصـــــة يحتم بذلك