الثلاثة الذين أنطقهم الله في المهد
ففي صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يتكلَّم في المهد إلا ثلاثة))، لم يتكلم في زمن الرضاعة والطفولة إلا ثلاثة أطفال، يرضعون اللبن من ثُدِيِّ أمهاتهم، ولكنهم تكلّموا، فمن الذي أنطقهم؟! ومن الذي أعطاهم القدرة على الكلام؟!.
أنطقهم الله الذي أنطق كلَّ شيء، الذي يُنطق الحجارة فتتكلّم، والجلود يُنطقها يوم القيامة فتتحدّث، والأعضاء يستشهدها فتشهد، ويختم على الأفواه التي طالما تكلَّمت وحاربت ربها فلا تتكلّم.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبر أنه لم يتكلّم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى عليه السلام، وقد أتت به أمه بلا أبٍ،
فأتت مريم تحمل عيسى عليه السلام، قال بنو إسرائيل: يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيّا [مريم]. فلم تتكلَّم وأشارت إليه، فتضاحكوا وقالوا: كيف نُكلِّم من كان في المهد صبيًّا [مريم].
فتكلّم عيسى بإذن الله، ولم يَمْضِ عليه إلا ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، فتكلّم بلسان فصيح، نصيح، مليح، قال: إني عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمت حياً وبَرًّا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام عليَّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيًّا [مريم-33]. هذا أولهم.
وثانيهم صاحب جُريجٍ، وكان جريجٌ رجلاً عابداً من عباد بني إسرائيل، وكان دائماً في صلاة، وذِكر، ودعاء لله تبارك وتعالى، وقد اتخذ صومعة يعبد فيها ربّه – عز وجل -.
وفي ذات يوم أتته أمّه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا ربِّ أمي وصلاتي، أي ماذا أفعل؟ أأقطع الصلاة لأجيب أمي، أم أستمر في الصلاة ولا أقطعها، ثم أقبل على صلاته.
جريج فلم يعصِ أمه، ولكنه رأى أن طاعة الله تُقَدّم، فاشتغل بصلاته و ولم يُجب أمّه، فانصرفت أمه، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج. فقال يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فقالت أمه: اللهم لا تُمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات!!
أي لا تحكم عليه بالموت والفناء قبل أن يرى وجوه الزواني والبغايا المجاهرات بذلك.
دعت أم جريج عليه وانصرفت، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وحسدوه على ذلك، لأنهم لا يريدون إلا الفجور والفسق والعُهر.
وقد تآمر عليه بنو إسرائيل, فأتت امرأة بغي يُتَمثّل بحسنها, فقالت: إن شئتُم لأفتِننَّه لكم, فتعرضت له, فلم يلتفت إليها, فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته, فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو مِن جريج، فأتوه، فاستنزلوه ,وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف، أتى، فطَعنَ في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال الصبي الرضيع: أبي فلانٌ الراعي. فأقبلوا على جريج يُقبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طينٍ كما كانت، ففعلوا وهذا الثاني .
والثالث: صبيٌّ كان يرضع من أمه، فمَرّ رجلٌ راكب على دابة فارهة وشارةٍ حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع!!.
ثم مرّوا بجارية، وهم يضربونها، ويقولون: زنيتِ، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة، فقلتُ : اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله.
ومروا بهذه الأمَة، وهم يضربونها، ويقولون: زنيتِ، سرقتِ، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها !! فقال الرضيع: إنّ ذاك الرجل كان جبّاراً، فقلتُ: اللهم لا تجعلني مثله. وإنّ هذه يقولون لها: زنيت ولم تزنِ، وسرقت ولم تسرق، فقلتُ: اللهم اجعلني مثلها