إرهـــاب الهواتـــف
بقلم رجـب قرنفـل***
أخي العربي :هل تعرف ماهو الشئ الذي يُصنع ، ويُعلَّب ، ويُعبَّأ في الخارج ، ويُشحن إليك مباشرة ، دون مقابل ، مع أطيب التمنيات ؟
إن كنت لاتعرف ، فهو شيء واحد فقط ، اسمه : ( الإرهاب ) .
هذا الإرهاب .. هو المُنتج الوحيد الذي يُصدَّرُ إليك مجَّاناً ، ويصلك ولايقطعك يصيبك ولايخطئك .. يأخذك على حين غرَّة ، ولايستأذنك بالمرَّة ..
كائناٌ مـن كنت ، وأينما كنت , في عملك , في مرتعك , في مخدعك ،
دون طلبٍ مُسْبَقْ ، ولا مشورة بالمطلقْ .
نعـم .. إنه الإرهاب بكـل أنواعه وأشكاله ، الزاحفةِ ، والعائمةِ ، والطائرةِ ، والعابرةِ للقارات .. إرهابٌ ( أمريكي / صهيوني ) مُركَّب مُزدوج ،
يشدُّ بعضُه بعضاً, فيرجى أخذ العلم , ومن هنا نبدأ , السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته :
أولاً ـ الإرهاب الأمريكي : سُئِلَ ( فرعون ) : ( مـين فَرْعَنَـكْ ) ؟.. فأجاب : ( فَرْعَنْت وما حَدَا رَدّْني ) كذلك هي أمريكا اليوم ( فرعنت وما حَدَا رَدَّها ) ونصَّبت نفسها سيـدة على العالم ، دون أن يقول لها أحدٌ : ( ما أحلى الكحل في عينك ) .
من ناحيتي أنا : أنا لست ضد ( أمريكا ) في السيادة على العالم ،
ولكنني ضد ( أمريكا ) في الفرعنة على العالم ،
والتألُّه في الأرض ، والتحكُّم في رقـاب البشريَّة ..
والمثل الدارج يقول :( إذا كنت سـيدْ لا تزيـدْ ) والزيادة في السيادة ،
شـطط خسيس لا تهـواه الشعوب ، قـد فرَّغ العالم من الأمن ،
الذي مَنَّ الله به على عباده ، وزرعت مكانه الخوف ،
والله تعالى يقول : (( فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف )) ولسان حالها يقول ما قاله ( فرعون موسى ) لقومه :
( لا أريكم إلا ما أرى ) وما تراه أمريكا هو :
( عنزة ولو طارت ) ، وكل مـن يراهـا ( قبَّـرة ) أو ( جاموسة ) أو
( ناموسة ) فهو إرهابي حتى الجدِّ السابع ،
معلنة : ( كل من ليس معنا فهو ضدنا ) ..
وكل من هو ضدهم فهو مع الإرهاب ،
وذلـك هـو العجب العجاب ، ويا ويل من لا يفهم الخطاب ،
أو يحسن ردَّ الجواب .
ثانياً ـ : ( الإرهاب الصهيوني ) : عن هذا الإرهاب حدِّث ولا حَرَج ، إذ لا يوجد على لسان الصهاينة في فلسطين المحتلة سوى خطاب واحد هو :
( الحرب هو خيارنا الإستراتيجي والوحيد .. فهل من محارب ؟
.. هل من مقاتل ؟.. هل من منازل ؟ ) فنربأ بأنفسنا عـن هذا الإسفاف المتخلف ، ونردُّ عليهم بخطاب حضاري معاكس ،
بما نحن أهله من حكمة وتعقُّل وتسامح : ( السلام هو خيارنا الإستراتيجي والوحيد .. فهل من مسالم ؟.. هل من مصالح ؟.. هل من مهادن ؟ ) .. فيضعون أصابعهم في آذانهم ، ويستغشون ثيابهم ، ويستكبرون استكبارا .
***في هذا الوقـت بالتحديد ، وما إن فرغت من كتابة هذه المقالة ،
حتى حـدث مالـم أكن أتوقعه أو يتوقعه أي إنسان ..
نعم لقد حدث مالم يكن في الحسبان .. لقد رنَّ جرس الهاتف إلى جانبي .. رفعتُ السماعة :ـ ( آلو .. مين ؟ ) .فجاءني الصوت مدوّياً كالرعد
:ـ ( آلو .. أنا أمريكا ) .
وسرعان ما نفضت السماعة من يـدي وكأنها ثعبان ،
وقـد تملَّكني شـعور بالرعب الشديد ، وأنا أحدِّث نفسي : ( يا إلهي .. أمريكا مرَّةً واحدة ؟! وماذا تريد مني أمريكا في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟! وأنا لست زعيماً مشاكساً ، ولا إرهابيَّاً مطلوباً ، ولا أملك أسلحة نوويَّة أهدِّد بها أحداً !!! ) الى أن هدأ روعي ، وانتظمت دقَّـات قلـبي ، ورحت أتساءل :
لمـاذا لا تكون المتصلة واحدة اسمها ـ مثـلاً ـ ( شيكا بيكا ) أو( كوستريكا ) وليست ( أمريكا ) ؟ وظننت أن المسالة قد انتهت ,
ولكن ( أمريكا ) أبت إلاَّ أن تعكِّر عليَّ خلوتي ،
وتفسد عليَّ ليلتي ، ورنَّ جرس الهاتف من جديد .. ترددت في البداية ..
ثم رفعت السماعة بحذر شديد :ـ ( ألو .. نعم ) .ـ
( ألو .. كيف تتجرَّأ وتغلق السماعة في وجهي يا أبله ، وأنا التي لم يُغلق في وجهي باب ولا شبَّاك ، ولم تعصَ عليَّ أرض ولا سماء )
.قالت ذلك بغضب .. قلت في نفسي : بداية غير طيبة , ثم أجبت بشيء مـن التأفف :ـ ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ،
أعـوذ بربِّ الفلق من شرِّ ما خلق ) .ـ ( لم أفهم .. ماذا تقصد ياهذا ) ؟
سألتني بتشنُّج , فقلت لها نافياً متجاهلاً :ـ
( أبداً .. أقصد أنني لا أعرف واحدة بهذا الاسم .. فمن أنت بالضبط ) ؟ـ
( كيف لا تعرفني يا أبله ، وأنا التي ترتجف لاسمي الأحداق فـي العيون ، وترتعد لصوتي الأجنَّة في البطون ، أنا التي لايختلف عليها عاقل ولا مجنون .. أنا الولايات المتحدة الأمريكية ، فوق كل الظنون .. فهل عرفت الآن مـن أكون ) ؟ـ ( آه .. فهمـت .. تقصدين البلوات المتحدة الأمريكية ،
صاحبـة البيـت الأبيض ، والتاريخ الأسود .. أليس كذلك يا سيدتي ) ؟ـ
( تبَّاً لك .. ماذا تقول ) ؟! ـ ( أقول ما تقوله كل شعوب الأرض ) .ـ
( إخرس .. كلهم رُعَاع من أمثالك .. أنظر الى قادة تلك الشعوب ،
وستجد الكثيرين منهم ، أطال الله في عمرهم ، يسبِّحون بحمدي ،
ويتسابقون الى خطب ودِّي ) ـ
( حسناً .. ماذا تريدين مني الآن في هذه الليلة المشؤومة ) ؟ـ
( اسمع يا شاطر .. لقد ضبطتك أقماري الصناعيَّة بالجرم المشهود
وأنـت تكتب عني الآن ، وتتهمني بالفرعنة والإرهاب ،
وتؤلِّب الناس ضدي ، وهذا تطاول كبير على أمريكا ، وتهديد خطير لأمنها القومي ) .ـ ( وهل أنتِ غير الذي قلت يا سيدتي ) ؟ـ
( هـذا جحود ونكران .. هـل نسيت أنني أنا التي حررت لـكم العـراق ، وأعدمت لكم الطاغية ، وخلَّصت العالم من شروره صباح العيد ، ليصبح العيد عيدين .. هـل نسيت أنني ضحيت بصفوة ابنائي ، لأحقق الأمـن لابنائكم .. هـل نسيت أنني أقمت لكم القواعد العسكريَّة من أجل سلامتكم ، والسهر على راحتكم ، وحمايتكم من الإرهاب والإرهابيين ) .ـ
( ومن قال لكِ أننا نسينا ، أو سننسى لكِ هذا الصنيع في يوم من الأيام .. نعم نحن أمَّة لا تنسى ) .ـ ( إذاً عليكَ أن تسحب كلامكَ فوراً ،
وتتعهَّد أن لا تعـود إليه مرَّةً أخرى ، وإلاَّ اعتبرتكَ إرهابياً خارجاً على القانون ، وصنَّفتكَ في عداد المطلوبين الى معتقل ( كوانتنامو ) ،
بتهمة الانتماء الى تنظيم ( القاعـدة ) ، واعتقلتكَ ،
واقتلعتكَ من جذوركَ الى الأبد .. هل فهمت ) ؟
وهنا لملمتُ أطراف شجاعتي ، وقلتُ لها :ـ
( يبدو عليكِ أنكِ غبيَّة جداً يا أمريكا ، لم تفهمي ماقلته لـكِ حتى الآن
.. اسمعي يا سلطانة العصر والزمان : لقد مارستِ كل أنواع الإرهاب في الأرض بالطول والعرض ، بـدءاً مـن الإرهاب الدموي على الهنود الحمر ، ومروراً بالإرهاب الـذرِّي على اليابان ، وانتهاء بالإرهاب التجسُّسي الـذي تمارسينه عليَّ الآن .. هذا أولاً ..
ثانياً : إذا كنتِ تعتبرين غزو العراق تحريراً ،
فلماذا لا تحرِّرين لنا فلسطين من الإحتلال الصهيوني ..
ثم ماذا تريدين أن أكتــب عنكِ غير الذي كتبت ؟ ..هل تريدين أن أصفكِ ـ مثلاً ـ وأنـتِ تحرقين دار السلام , بحمامة السلام ؟ ..
أم تريدين أن أقول لكِ وأنت تذبِّحين أهلنـا في عاصمة الرشيد : مرحى لكِ على إرهابكِ ، وكتَّر الله من أمثالكِ ؟ .. أم أقول لكِ وأنتِ تدمِّرين حضارة العراق ، وذاكرة العراق ، وكنوز العراق ، في أرض الرافدين :
سَلِمَت يداكِ ، وعين الله ترعاكِ ..
ثالثاً : أنا لا أنكر أنه بمقدوركِ أن تعتقلي فرداً أو جماعة ،
ولكنكِ لن تستطيعي أن تعتقلي شعباً بأكمله ، أوتقتلعي أمَّة من الوجود ..
فهل وصلت الرسالة ) ؟ـ
( أنت كاتب مارق .. أنت إنسان مغامر ، تسبح ضد التيَّار .. فلا تلومنَّ إلاَّ نفسك .. وقد أُعْذِرَ من أنذر ) .ـ
(( أما قلت لكِ أنتِ غبيَّة يا أمريكا .. سلام على أهل السلام )) .***
ما كدت أُنهي المكالمة ، وأضع السماعة من يدي ، وأتنفَّس الصعداء ، حتى رنَّ الهاتف مجدَّداً ، فقلت في نفسي لابدَّ أن يكون المتصل هذه المرَّة صديقاً ،
أجد في الحديث معه بعض الراحة والعزاء ، وأسرعت الى رفع السماعة فوراً ـ ( ألو .. مين ) ؟وإذ بالمتَّصل ، عافاني الله وإيَّاكم ، ليس صديقاً ,
وهنا تأتي المفاجأة الثانية :ـ ( ألو .. أنا إسرئيل ) .وتعال تفرَّج يا سلام على عجايب هالأيَّام .. وصحت باستغراب :ـ
( نعم .. شـو تفضَّلْتِ حضرتكْ !!!!!!!! )ـ
( قلتَ لك أنا إسرائيل .. لماذا أنت مستغرب ) ؟ـ
( نعم .. ماذا تريدين أنتِ الأخرى ) ؟ـ
( إسمع يا شاطر .. لقد سمعت عنك بأنك تدعو الى الوحدة العربيَّة ،
أفلا تعلم أن الوحدة محرمة عليكم حتى في الأحلام ؟
هذا أولاً .. أما الشيء الثاني : أنـت تنشر مـن حولي ثقافة العداء ،
وتصمني بالإرهاب الخطير، والشـر المستطير، وأنا منه براء ..
فـإذا كنتم تعتبرون مجزرة ( كفر قاسم ، وديـر ياسين ) ، ومذابح ( صبرا وشاتيلا ) ، وهجوم ( اينشتاين ) على ( الحــرم الإبراهيمي ) ،
ومحرقة ( عناقيد الغضب ) في ( قـانـا ) التي أقـدم عليها ( شمعون بيريز ) ومسالخ العصر في ( جنين ) التي نفذها ( أرييل شارون ) ..
وتدمير ( لبنان ) و ( غزة ) الذي أرتكبه ( أولمرت ) إرهاباً
فاعلموا أنه ( فشـة خلـق ) .. لذلـك أنصحك بالكف عن هذا الهذيان ،
وتلـك الهرطقة الوحدوية ، والتوجه نحـو السلام ، وإلا أعتبرتكم أمـةً إرهابية ، وحولـت بيوتكم إلى معتقلات انفرادية ) . فقلت في نفسي :
حسبي الله ونعم الوكيل على هذه الليلة ، و سألتها :ـ
( وما هو المطلوب منا بالضبط حتى لا نكون إرهابيين ؟ ) .
ـ ( المطلوب منكم هو الصمت المطبق ) . ـ
( ولكننا صامتون ، فماذا تريدين منا أكثر من ذلك ؟ ) .ـ
( هذا صمت الخرسان ، وأنا أريده صمت أهل القبور ) .ـ
( و ما الفرق ) ؟ـ ( الفرق كبير .. الخرسان يحسون ويسمعون ويبصرون ، وأنـا أريدكـم موتى في أثواب أحياء ..
وحتى أتأكد من صمتكم ، دعونا نقتلكم .. نذبحكم .. نجزُّ أعناقكم ..
نستلُّ أرواحكم .. نسلخ جلودكم .. نشـرب مـن دمائكـم ..
نرقص على أشلائكم ، وأنتم سكوت سكوت )) .***
هـذه هـي ( إسرائيل الأمريكية ) ، وتلك هي ( أمريكا الصهيونية )
سـلالةًُ بعضها من بعض .. ونحن بين الاثنتين نعيش الإرهاب المزدوج كالطوفان .. نعيش حياة القهر بين المطرقة والسندان ..
أمام هذا التحدي المركَّب لا نملك إلا خياراً واحداً فقط :
( نكون .. أو لا نكون .. تلك هي المسألة )
وحتى نكون ، لا بدَّ أن تكون لنـا قـوة حضاريَّة على الأرض ،
لأن العالم لا يحترم إلا الأقوياء .. والله تعالى يقول :
( وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قـوَّة ومن ربـاط الخيـل ، ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم وآخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم ) وقوتنا الحقيقية التي لا يدانيها قوة على وجه الأرض ، هي قـوَّة ( الوحدة ) .. وإلا فلن نكون .. لن نكون .. لن نكون .وفي الختام نقول لكل المراهنين على ( أمريكا ) :
ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية ولن تكون ( ولايات متحدة ملائكية )..
لذلك تعالـوا إلى صحـوة عربية ، لا لكي نتباهى بأجدادنا حسباً ونسباً ..
أو نتبارى في مدحهم شـعراً وأدباً ..
ولا لكي نستنهض الهممَ بالقادسية واليرموك ،
وعند الكريهة نطلـق الساقين للريح هرباً ..
ولا لكي نعقد القممَ العربيةَ لبحث القضية ،
ثم نتبـادل بعدها اللوم والعتبَ .. ولا لكي نتغنى بالوحدة ،
ثم يغني كل منا على ليـلاه طرباً ..
وإنما لكي نصنع المستقبل ، ونتعلم كيف نكون عرباً .. عرباً .